تفصيل: فإن كانت الثقة بمعنى الاعتماد على النفس فهذه لا تجوز، وأما إن كان بمعنى أن الإنسان عنده قدرة وليس بخائف وعنده تجربة، فهذا يجوز. ومثله قولنا: «رجل موثوق ورجل ثقة» فهذه فيها تفصيل.
فإن كان ثقة بمعنى: يعتمد عليه، فهذا لا يجوز.
وأما إن كان معنى ثقة بمعنى: أنه لا يخون، أو أمين، أو يجتهد بالقيام بالمهمات فهذا جائز.
قوله: "تعالى": هنا ثناء على الله سبحانه، ويستحب إذا ذكر اسم الله تعالى أن يثنى عليه بـ "تعالى" و "عز وجل" و "سبحانه" ذكر هذا النووي في مقدمة مسلم.
قوله: ]وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا[ [المائدة: 23] أي: أفردوا الله بالتوكل وأفردوا الله بالاعتماد.
]إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ [البقرة: 91] يدل على أن الإيمان مرتبط بالتوكل، ويدل بالمفهوم مفهوم المخالفة أن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن بدلالة المفهوم، لكن هل الإيمان المنفي أصله أو كماله الواجب؟
حسب الاعتقاد: إن كان الشرك الأكبر فالمنفي أصل الإيمان، وإن كان الشرك الأصغر فالمنفي كماله الواجب.
مسألة: يمر علينا في بعض الأحاديث أنه يعتمد على كذا، كما في صفة صلاة النبي r«وكان يعتمد على ركبتيه» وفي بعض الأحاديث «كان يعتمد على قوس أو عصا إذا خطب» فهل هذا مثل مسألة الثقة بالنفس؟
لا ليس مثلها؛ لأن هذا في معنى الاتكاء والاستناد، وهذا هو المقصود في اعتمد، فهو اعتماد جوارح، والذي عندنا في الباب هو اعتماد القلب.
الآية الثانية:
وقوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[ [الأنفال: 2].
إنما: أداة حصر، وهذا أسلوب ثاني من أساليب الحصر.
المؤمنون: أي: والمسلمون، وهذا مدح وثناء.
وجلت: أي خافت.
وعلى ربهم يتوكلون: هذا هو الشاهد.
وهنا أيضًا حصر توكلهم على الله؛ لأنه قدم ما حقه التأخير.
مناسبة الآية: فيه المدح والثناء على من أفرد الله بالتوكل وأنه من صفات المؤمنين.
الآية الثالثة:
قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ[ [الأنفال: 64].
يا أيها النبي: هذا نداء للنبي.
النبي: من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ وكان على شرع من قبله. والنبي أعم من الرسول.
حسبك: كافيك الله.
ومن اتبعك: الواو عاطفة، والمعنى حسبك الله وحسب أتباعك الله.
وتفسيرها: بـ «حسبك الله وحسبك أتباعك من المؤمنين» تفسير ضعيف. وسبب بالضعف: لأن المؤمنين ليسوا حسبًا للرسول.
مناسبة الآية: أن الله هو الكافي والمعتمد، فيجب التوكل عليه.
الآية الرابعة:
قوله تعالى: ]وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[ [الطلاق: 3].
يتوكل: يعتمد.
حسبه: كافيه.
مناسبة الآية: أن الاعتماد على الله كاف، ومعنى كفاية الله أي: الله يكفيه من الضرر، أما الأذى فقد يصل إليه ولكنه لا يضره، قال تعالى: ]لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى[ [آل عمران: 111].
حديث ابن عباس:
هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن الإخبار عن قول إبراهيم لا يؤخذ بالرأي.
حسبنا الله: أي كافينا.
ونعم الوكيل: أي نعم المعتمد.
إبراهيم عليه السلام: هذه عادة المؤلفين، وهي التسليم على الأنبياء، والأفضل الجمع
بين التسليم والصلاة.
النار: يقصد بها النار التي أوقدت لإبراهيم، وهي غير النار الأخروية.
]الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا[ [آل عمران: 173].
أي: فلم يخشوا الناس، وإنما زادوا اعتمادًا على الله سبحانه وتعالى.
وقالوا: فيه استحباب هذا القول عند المصائب والكرب.
وكان من كفاية الله لهم أن تراجع أبو سفيان ولم يحصل بينهم قتال، وهذا في «حمراء الأسد».
مناسبة الحديث: هذا الحديث فيه الاعتماد على الله سبحانه.
]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ [الأعراف: 99]، وقوله: ]وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[ [الحجر: 56].
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله r سئل عن الكبائر، فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» رواه عبد الرزاق.
قال الشارح:
موضوع هذا الباب: حكم الأمن من مكر الله، والمصنف جعل هذا الباب بعد باب التوكل، ولو كان بعد باب الخوف لكان أنسب؛ لأن هذا الباب ألصق بباب الخوف لسببين:
السبب الأول: أن شدة الخوف تؤدي إلى القنوط واليأس، والقنوط تعرض له المؤلف.
السبب الثاني: أن عدم الخوف يؤدي إلى الأمن من مكر الله، وعلى ذلك فعدم وجود الخوف مشكلة وزيادته مشكلة.
المسألة الأولى:
المكر: هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
وأما مكر الله: فله تفسيران.
التفسير الأول: باعتبار أنها إضافة الصفة إلى الموصوف، وبهذا الاعتبار يكون مكر الله: صفة قائمة بالله تقتضي الإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، وهي بهذا من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة، وهي من الصفات التي تطلق على الله بالتقييد، فيُقال: يمكر الله بالماكرين. وهذا التفسير هو تفسير أهل السنة والجماعة.
وأما المعطلة كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والجهمية فإنهم لا يثبتون صفة المكر.
التفسير الثاني: باعتبار أنها إضافة المخلوق إلى الخالق، ويقصد بها هنا: استدراج العاصين بالنعم.
والأقرب التفسير الأول أنها من آيات الصفات؛ لأن هذا هو الأصل.
المسألة الثانية: كيف يوصف الله بالمكر والمكر مذموم؟
إذا كان المكر في محله فهو مدح، وإن كان المكر في غير محله فهو مذموم، والموصوف به الله هو المكر في محله، والمستحقين له هم الماكرون.
المسألة الثالثة: حكم الأمن من مكر الله وعلاقته بالتوحيد:
حكمه: محرم وينافي كمال التوحيد الواجب، والدليل على ذلك الآية الأولى.
الآية الأولى:
]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ [الأعراف: 99].
أفأمنوا: الاستفهام هنا يقصد به الإنكار، والواو تعود على أهل القرى، وهي القرى التي عصت الله مع وجود النعم عليها.
مكر الله: هنا بالمعنى الأول من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومر علينا قبل قليل أن مكر الله وصف قائم في ذات الله يقتضي الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
فلا يأمن: دليل على أنه لا يجوز الأمن من مكر الله.
القوم: فاعل يأمن.
الخاسرون: هذه صفة وعقوبة الآمن من مكر الله أنه خاسر، وجاءت الخسارة هنا بالألف واللام، فهل هي الخسارة المطلقة أو مطلق الخسارة؟
الأصل في هذا التعبير أنه للاستغراق، وعلى ذلك تكون الخسارة المطلقة، ولذلك قال الشارح ابن قاسم: أنه ينافي التوحيد، لكن هذا يُحمل على أنهم أتوا بشيء فيه شرك أو كفر، فإن كان عدم الخوف من مكر الله يتضمن الاستخفاف بالله وأن الله لا يقدر، فهذه خسارة مطلقة، وإن كان عدم الخوف كما يحصل من المسلمين من فعل المعاصي وهم في نعم، فهذا ينافي كماله الواجب، فيكون مطلق الخسارة، ولذلك يجب على الإنسان أن يخاف من الله سبحانه وتعالى خصوصًا إذا أنعم الله عليه.
المسألة الرابعة: مواطن الخوف:
الخوف له مواطن يحمل عليها:
1- إذا نظر إلى ذنوبه وكثرتها خاف.
2- إذا نظر إلى شدة عقوبة الله خاف.
3- إذا نظر إلى عدل الله خاف.
4- إذا فعل الطاعة خاف عدم القبول بكونه مقصرًا.
5- عند المصائب والمكاره إذا كان عاصيًا خاف عدم التفريج.
وهذه مواضع للخوف محدودة.
الآية الثانية:
وقوله: ]قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[ [الحجر: 56].
من: الاستفهام يُراد به هنا النفي.
يقنط: تعريف القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه.
والقنوط عند الإطلاق يدخل في تعريفه اليأس، ولذا فالقنوط هنا استبعاد مع قطع.
رحمة ربه: أما بالنسبة لصفة الرحمة فالله موصوف بالرحمة، قال تعالى: ]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[. وهو مذهب أهل السنة والجماعة، لكن "رحمة ربه" هل هي من إضافة المخلوق إلى خالقه والفعل إلى فاعله؟ أم من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؟ هنا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
فيكون المعنى: ومن يقنط من رحمة ربه التي اتصف الله بها.
فائدة:
الرحمة على مذهب أهل السنة والجماعة تأتي لمعنيين:
إذا أضيفت إلى الله تأتي بمعنى الصفة القائمة بذات الله، فإن كان المضاف عين قائمة مستقلة كالجنة، فهي من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
وإن كانت بمعنى لا يقوم إلا بالذات، فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
مثال ذلك: تأتي بمعنى الصفة القائمة بذات الله كما في يقوله: ]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[، وقد تأتي بمعنى الرحمة المخلوقة كما في الحديث القدسي «أنت الجنة رحمتي».
إلا الضالون: الألف واللام الأصل أنها للاستغراق، فيكون قولنا هنا مثل قولنا في ]الخاسرين[، والآية قالها الملائكة لإبراهيم لما بشروه بغلام.
والشارح ابن قاسم ذكر أن إبراهيم لما ذكروا له البشرى أنه لم يستبعد الفرج، ولكنه قالها على وجه التعجب.
مناسبة الآية: تدل على أن القانط ضال، وهذا ينافي التوحيد أو كماله الواجب.
وعن ابن عباس أن رسول الله r سئُل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله».
درجة الحديث:
هذا الحديث أختلف فيه، فذهب ابن كثير إلى تضعيفه وقال: في إسناده نظر، والأشبه أنه موقوف.
وانتقدوه لأن في إسناده شبيب بن بشر، وذهب بعض أهل العلم إلى تحسينه منهم العراقي في تخريج الإحياء والألباني في الجامع، والأقرب أنه مقبول، ويعضده الحديث الذي بعده.
سئُل: مبني للمجهول ولا يهمنا تعيينه.
لكبائر: فيها مسائل.
المسألة الأولى: تعريف الكبائر.
الكبائر: جمع كبيرة وهي: كل معصية محرمة متوعد عليها بوعيد.
المسألة الثانية: هل الكبائر تُعرف بالحد أم بالعد؟
لا. هي تُعرف بالحد، فهي كل معصية تُوعّد عليها، وأما العد فعددها كثير.
المسألة الثالثة:
الألف واللام في الكبائر ليست للاستغراق، فليس ما ذكر الرسول r هنا هي الكبائر فقط.
وإنما عد هنا الكبائر المتعلقة بالخوف والرجاء.
فاليأس: كبيرة في باب الخوف وهو شدة الخوف.
والأمن: كبيرة لأنها عدم الخوف.
أما الكبائر التي ذُكرت في الحديث:
الأول: الشرك بالله.