المرتبة الثانية: أن يحبه لله وللمنافع والمصالح التي يحصلها من ورائه، وهذه المصالح والمنافع مباحة ليست محرمة وهذه المرتبة جائزة؛ إلا أنها لها مراتب: أحيانًا يكون حب الله أكثر، وأحيانًا تكون محبة المنافع أكثر، وأحيانًا تتساوى.
المرتبة الثالثة: أن يُحبه للمصالح فقط، وهذه لا تجوز لما يأتي في آخر الباب من حديث ابن عباس، وقد صار: «عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا».
وأكمل هذه المراتب المرتبة الأولى: أن يُحبه محبة خالصة.
أما الكافر فلا تجوز محبته، ومحبته دائرة بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.
هل تدخل المرأة في قوله "المرء" أم لا؟
الأصل: العموم فلو أحب امرأة من أجل ما فيها من إيمان وصدق لدخل في هذا الباب.
الثالث: أن يكره الكفر كرهًا شديدًا ككره من كره الإلقاء في النار.
وصور كراهية الكفر أربع:
الأولى: أن يكره الكفر، وهذا ضروري ولازم لقوله r: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله فقد حرم دمه وماله ...» الحديث. وهذه غير مرادة في الحديث، وذهابها يُذهب أصل الإيمان.
الثانية: أن يكره الكفر أشد من الإلقاء في النار، وهذه المرتبة يدلُ عليها الحديث بقياس الأولى.
وجاء عند البخاري في الأدب المفرد «أن يقذف في النار أحبُ إليه».
الثالثة: أن يكره الكفر كراهية مساوية لكرهه أن يقذف في النار، وهذا ما يدل عليه الحديث.
الرابعة: أن يكره الكفر ولكن كراهية أقل من كراهية الإلقاء في النار، فتكون كراهية الإلقاء أشد، مما يؤدي إلى أن يُوافق على الكفر أحيانًا.
وقوله في الحديث: «أن يعود في الكفر» هذا للكافر الأصلي الذي أسلم، خرج من الكفر فيكره أن يعود له.
وبالنسبة للمسلم الأصلي: يكره الكفر لا العودة إليه.
ومتى تكون الحلاوة في هذه المسألة؟ إذا كانت كراهيته للكفر مساوية لكرهه الإلقاء في النار، فإذا كانت أشد فالحلاوة أشد.
مسألة: هل الضرب والقتل مثل كراهية الإلقاء في النار؟
يكون مثله، ولذا عقد البخاري في صحيحه بابًا بعنوان «من اختار الضرب أو القتل أو الهوان على الكفر» لكن الضرب المبرح غير المحتمل.
يعود في الكفر: أل في الكفر يقصد به الكفر الأكبر.
بعد إذ أنقذه الله منه: نسب الإنقاذ إلى الله، فلما كان الله هو الذي أنقذه فما يقابله يكون من باب الشكر.
الكراهية هنا: هي البغض في القلب.
مسألة: إذا كانت محبة الله ورسوله مساوية لما سواهما؟
هذه من الشرك.
ولكن لو كانت محبة الله أكثر؛ إلا أنه يترك الواجب أحيانًا من أجل محبوب، فهذه من الشرك الأصغر.
وكونه يُحب المرء محبة خالصة هذه توجب حلاوة الإيمان، وأما غيرها فهي جائزة. أن يُلقى في النار: النار المعروفة في الدنيا.
يُلقى: مبني للمجهول.
وفي رواية: لا يجد حلاوة الإيمان حتى ... إلى آخره. هذه رواية البخاري.
وعن ابن عباس قال: «من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صار عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا». رواه ابن جرير.
هذا موقوف، والموقوف هو: قول الصحابي.
والموقوف هذا ضعيف؛ لأن مداره على ليث بن أبي سليم.
قال الحافظ: صدوق تغير. ولم تتميز أحاديثه.
لكن يُغني عنه ما رواه أبو أمامة مرفوعًا «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود].
شرح حديث أبي أمامة:-
أحب لله: هذه مرت علينا ومرت بأسلوب أقوى، فيه نفي وإثبات، فهذا الحديث دليل على جواز أن يُحبه لله مع المصالح الجائزة.
وأبغض لله: البغض هو: معنى في القلب يؤدي إلى البعد والمحاربة لكن له آثار على الجوارح.
والبغض لله: يكون للأشخاص، والأماكن، والأعمال.
مسألة: حكم بغض المسلم؟
فيه تفصيل: إن كان لأسباب دنيوية فهذا حكمه بحسب الأسباب، فإن أبغضته لأنه اعتدى عليك أو ظلمك فهذا بُغض طبيعي، إذا قام في قلب الإنسان لا يُؤاخذ عليه ما لم يكن له آثار على الجوارح، بأن تظلمه كما ظلمك. أما دليل عدم المؤاخذة: قوله r «عُفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».
أما لو أخذت حقك منه عن طريق السلطان فهذا لا مانع فيه ]وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا[ [الشورى: 40].
وأما إن كان البغض لإسلامه فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه بغض للإسلام.
أما لو أبغضته لأنه لم يعطيك شيئًا من المباح كالقرض فهذا لا يجوز. مع ملاحظة أن أصل محبته لكونه مسلمًا موجود، لكن الجهة هنا منفكة باعتبار الأعمال، ولذا لو ذهب عنه وصف الإسلام لحدث بغض آخر.
وقال ابن عباس في قوله: ]وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ[ [البقرة: 166] قال: المودة.
هذا أيضًا موقوف على ابن عباس، وفي نفس الوقت تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع إذا لم يكن معروفًا بالأخذ من الإسرائيليات، وليس الحكم مما للاجتهاد فيه مجال. وهذا الموقوف صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقوله: بهم: أي الكفار.
الأسباب: فسرها ابن عباس بالمودة، وهذا من باب التفسير بالمثال؛ لأن اللفظ عام
والتفسير خاص. وإلا فالذي يتقطع بينهم أشياء كثيرة كالعبادة، والتوسل، والشفاعة.
هذا الأثر يدل على أن المحبة المبنية على غير الله لا تنفع، ويدل على أن المحبة من أجل الدنيا مذمومة قال تعالى: ]الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[ [الزخرف: 67].
]إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ [آل عمران: 175].
وقوله: ]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ[ [التوبة: 18] الآية. وقوله: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ[ [العنكبوت: 10] الآية.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «إن من ضعف اليقين: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره».
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله r قال: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [رواه ابن حبان في صحيحه].
قال الشارح:
هذا الباب يسمى باب الخوف، وقد تحدث فيه المصنف عن حكم الخوف وعلاقته بالتوحيد، ولا زال المصنف يتكلم بما يتعلق بأعمال القلوب.
والخوف هو العمل الثاني من أعمال القلوب.
المسألة الأولى: لماذا ذكر المصنف باب الخوف بعد باب المحبة؟
لأن العبادة مرتكزة عليهما، فالغالب في الطاعات والأوامر أنها تفعل محبة، وفي النواهي والمعاصي أن تُترك خوفًا، وقد يكون الحامل على الجميع المحبة أو الخوف.
المسألة الثانية: تعريف الخوف:
وصف قائم بالقلب يؤدي إلى فعل الأوامر وترك النواهي.
المسألة الثالثة: هل يغلب جانب الخوف أم جانب المحبة؟
فيه ثلاثة أقوال أوسطها التفصيل بحسب الأحوال أو الأوقات، فمع الطاعة يغلب جانب الرجاء، ومع المعصية يغلب جانب الخوف، وفي الصحة يغلب جانب الخوف،
وفي المرض يغلب جانب الرجاء.
والقول الثاني: يغلب جانب الرجاء.
والقول الثالث: يغلب جانب الخوف.
المسألة الرابعة: ما هو الخوف النافع؟
هو ما ردك عن المعاصي والمحرمات ومن باب أولى الكفريات والشركيات.
أما الخوف الذي يرد عن المكروهات هذا لا يَرد؛ لأن فعل المكروهات ليس فيه خوف، والخوف يتعلق بما تُعاقب عليه، والمكروهات لا عقاب فيها.
المسألة الخامسة: أقسام الخوف وعلاقته بالتوحيد:
الأول: خوف السر، وهو أن يخاف من المخلوق كما يخاف من الله، كمن يخاف من الوثن والطواغيت.
وهو أنواع:
أ- أن يخاف ممن لا يملك أصلاً ولا يؤثر، كالخوف من الجمادات كالوثن وغيره ممن لا يملك شيئًا.
ب- أن يخاف من الأموات.
وهذان النوعان ليس فيهما قيد «فيما لا يقدر عليه إلا الله»، فمجرد الخوف هذا شرك أكبر.
ج- أن يخاف من الأحياء ([1])، وهذا فيه شرط وهو: أن يخافهم أن يصيبوه فيما لا يقدر عليه إلا الله.
مثاله: كأن يخاف من المخلوق أن يقطع نسله، أو يخاف من المخلوق أن يدخله النار، أو أن يقطع رزقه، أو أن يصيبه بأمراض.
د- الخوف من الجن، وهذا مقيد بما قيد به الذي قبله، وجميع الأنواع الأربعة حكمها واحد وهو: شرك أكبر، ويدل على هذا القسم عموم الآية الأولى.
الثاني: أن يترك ما يجب عليه أو يفعل ما يحرم عليه خوفًا من المخلوق فيما يقدر
عليه المخلوق، وهذا القسم يعتبر من الشرك الأصغر؛ لكن بشرط أن يكون من غير إكراه، أما لو أكرهه إكراهًا ملجئًا بشيء لا يحتمله فترك الواجب أو فعل المحرم، فهذا جائز في الأصل.
أمثلة هذا القسم:
أن يحلق لحيته خوفًا من انتقادات الناس، أو يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حماية لعرضه من الكلام. وهذا القسم متفش بين الناس وخصوصًا ترك الأمر والنهي، وهذا لا يجوز أي: أن يترك الأمر والنهي خوفًا على منصب أو عرض.
وهذا القسم من أهل العلم من ذهب إلى التحريم.
والقول الثاني: أنه من باب الشرك الأصغر، وهذا أقرب، لما روى الإمام أحمد «أن الله يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول الله: إياي كنت أحق أن تخشى» فهذا وجه كونه من الأصغر، وهذا الدليل منسحب أيضًا على ما قلنا في باب المحبة. والحديث «تعس عبد الدينار» فسماه عبدًا وهذا في الخوف والمحبة.
الثالث: الخوف الطبيعي، كالخوف من الحيوانات المفترسة أو من اللصوص، وهذا جائز في الأصل.
قال تعالى: ]فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ[ [القصص: 21].
المسألة السادسة: شرح الترجمة:
قول الله تعالى: ]إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ [آل عمران: 175].
إنما: أداة حصر. الشيطان: قيل إنه علم على إبليس.
وقيل إنه عام، فيكون اسمًا عامًا لمن وصف بالشيطنة، ويدخل تحته أنواع:
1- إبليس.
2- كل مؤذ من الجن.
3- كل مؤذ من الإنس.
بدليل قوله: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
([1]) المقصود بالأحياء هم عامة الإنس.